تأملات عن الآخر

 

الحاخام ميئير آزاري

يشعر العديدون منّا في الآونة الآخيرة بتعزّز التعصّب، العنصرية والاغتراب بين بني البشر، الثقافات، الأديان والأمم. وفي هذه الأيام تحديدًا، حيث يزداد التركيز عمّا يفصلنا عن بعضنا البعض، يتوجّب علينا البحث عمّا يوحّدنا ويقوينا. من واجبنا نحن، القلقين على سلامة المجتمع البشريّ، أن نضيء شعلة تدفئنا جميعًا في مكان يحتل فيه الظلام حيًزًا كبيرًا، في بعض الأحيان.  إنّ التحلي بالصبر والتسامح تجاه الآخر،  تجاه عقيدته وديانته، اختياراته وعاداته، والقدرة على احتواء الآخر بجميع خصائله، عيوبه وتميّزه هو واجب علينا في هذا القرن المعقّد الذي نعيش فيه. إنّ تجربتنا الحياتيّة، خاصّة في القرن الأخير، تشكّل خير دليل على إمكانات الدمار والخراب التي تهدّد العالم والمجتمع اليهوديّ الآخذ في التآكل.

في هذا العصر حيث تتسارع وتيرة الحياة أكثر من أي وقت مضى، يضعنا تناقل المعلومات بين الناس، الأماكن والثقافات أمام العديد من التحديات الجديدة. اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تُتاح أمامنا الفرصة للنظر  إلى الآخر، باختلافه، خصائله، وأحيانًا عيوبه أيضًا. تشكّل الحداثة نقطة التقاء بيننا وبين واقع وأدوات جديدة تسهّل علينا إيذاء وإهانة الآخرين. في أيامنا هذه، يسهل على الشخص العنصريّ ممارسة عنصريته.

شوارع العالم التي نتجوّل فيها، سواء في الواقع أو في الخيال، والأطر التي كنّا نودّ المشاركة فيها، تضم أناسًا من ديانات وثقافات مختلفة، وعالمنا الحاضر غنيّ بشتى الألوان والأجناس. دولة إسرائيل الحديثة مكوّنة أيضًا من فسيفساء غنيّ بالهويات المختلفة. حضر يهود إسرائيل من مختلف دول الشتات، يتحدّثون لغات مختلفة ويمارسون عادات مختلفة. حوالي ربع مواطني إسرائيل من غير اليهود يمثّلون الاختلاف والتميّز الذي كثيرًا ما يشكّل تحديًّا أمام الأغلبية، وفي الوقت نفسه يعتبر مصدر للثراء والقوة.

خرج سيّدنا إبراهيم، أول المؤمنين بعقيدة التوحيد، في رحلة بعد مناداة الله له: “أخرج من أرضك”. الكثير من النصوص كُتبت عن رحلته المميّزة لاكتشاف الذات، ولاكتشاف الآخر في الوقت نفسه. لقد تحوّل أﭬرام إلى إبراهيم عندما أدرك عظمة المهمّة الموكلة إليه وأصبح أب العديدين من غير اليهود.  إنّ علاقة إبراهيم ببيئته المختلفة عنه هي نموذج للحياة المشتركة- احترام الآخر، واحترام ديانته وثقافته، ليس من منطلق الضعف وإلغاء الذات. حقيقة أنّ العديد من المؤمنين وأبناء الثقافات الأخرى الذين تعود جذورهم إلى أبينا إبراهيم وإلى الكتاب الذي استقينا منه قصّته الرائع، يجب أن تكون حجر الأساس في مسار التعرّف إلى/ الاعتراف بالقاسم المشترك الذي يوحّدنا.

 

على مرّ السنين، علّمنا حكماء إسرائيل عن واجب الانفتاح تجاه الآخر والتعرّف إلى المختلف والمميّز لدى كلّ إنسان، وعن واجب القيادة لتعزيز هذا التوجّه.

على سبيل المثال، جاء في التلمود البابليّ في كتاب السنهدرين:

“لقد خلق ملك الملوك، سيّد الأسياد، القدوس المبارَك، كلّ إنسان على صورة الإنسان الأول، ولا يشبه أيّ منهم أخيه الإنسان… لذلك يتوجّب على كلّ منّا أن يقول: من أجلي خُلق الكون”.

ويتطرّق الأدب التلموديّ إلى وجوب اعتماد الحساسيّة والانفتاح تجاه الآخر والمختلف:

“وحين رأى الكثير من الناس، كان يقول تبارك الله. فلا تشابه بين وجوههم وآرائهم، ولكلّ منهم رأيه الخاص.  وقال لِيَجْعَلَ لِلرِّيحِ وَزْنًا، وَيُعَايِرَ الْمِيَاهَ بِمِقْيَاسٍ (أيوب، الإصحاح 28، الآية 25)، ولكلّ مخلوق رأيه الخاصّ. وليكن معلومًا لديكم أنّ سيّدنا موسى طلب من القدّوس في لحظة مماته، قائلًا: أنت تعرف يا ربّ عقول أبنائك، وأنّ لا أحد منهم يشبه أخيه الإنسان. وحين أرحل، أتوسّل إليك أن تعيّن لهم قائدًا يتقبّل كلّ منهم على اختلاف آرائه. فقد جاء في الكتب “يُوَكِّلِ الرَّبُّ إِلهُ أَرْوَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ رَجُلًا عَلَى الْجَمَاعَةِ”.

الأدب التوراتيّ لتنحوما ﭘنحاس

 

قبل كتابة الكلمات التي تزيّن وثيقة إعلان الاستقلال الأمريكيّ، وهي واحدة من الوثائق الأساسيّة لفهم التعدّديّة الثقافيّة”، عرف حكماء إسرائيل سرّ القوة الكامن في تعدّد الآراء والأطياف.

يجدر بنا أن نتذكّر دومًا أنّ اليهود سكان البلاد والشتات هم سلالة شعب عايشَ تجربة العبودية والمنفى، المذابح المدبّرة  ووقائع دامية أخرى بسبب تميّزه، من بين أسباب عديدة أخرى.

نحن شعب نَبَعت مطالبه بموطنٍ وحريّة دينيّة من ناحية، والتزامه باحترام واحتواء الآخر من ناحية ثانية، عن معايشته تجربة حياتيّة مريرة-  لقد اكتسبنا الأمل من عصا كارهينا، الذين لم يتوانوا أحيانًا عن ضربنا بلا رحمة، ومن أبناء ديانات وثقافات أخرى الذين قدّموا لنا الدعم في أيام عصيبة ومليئة بالتحديات. قصّة الصالحين بين الأمم، التي تشرّف تاريخ البشرية، يجب أن تعزّز لدينا التزامنا بمتابعة هذا التقليد الذي يحترم كلّ إنسان لمجرّد كونه إنسان.

إنّ السنوات التي قضاها أبناء شعبنا في المنفى هي خير دليل على تعصّب الشعوب الأخرى وعدم قدرتهم على احتواء تميّز الإنسان اليهوديّ وثقافته. من واجبنا إذًا، في دولة إسرائيل متعدّدة الأوجه والألوان، احتواء الآخر وثقافته، واحترام المختلفين بيننا، بغض النظر عن الجنس، اللون أو العقيدة.

يُلزم التناخ الإنسان اليهوديّ باحتواء الآخر، تقبلّه، احترامه وتفهّم ضائقته. هذا ما نادى به أباؤنا، ليليهم زعماء الكنائس وحكماء المسلمين، وقد جاء في سفر الخروج ” تَكُونُ شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَوْلُودِ الأَرْضِ وَلِلنَّزِيلِ النَّازِلِ بَيْنَكُمْ”.

جاء في سفر اللاويين بوضوح: “حُكْمٌ وَاحِدٌ يَكُونُ لَكُمْ. الْغَرِيبُ يَكُونُ كَالْوَطَنِيِّ”، وجاء في سفر العدد: ” شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُكْمٌ وَاحِدٌ يَكُونُ لَكُمْ وَلِلْغَرِيبِ النَّازِلِ عِنْدَكُمْ”.

يبدو أنّ آباءنا أدركوا أنّ الالتزام بالعدل، العدالة الاجتماعيّة ورفاه وكرامة الآخر هو بمثابة تحدّي الذي سيؤثّر على طابع المجتمع اليهوديّ وقوّته. لقد نادوا بتعميم التزام الإنسان اليهوديّ تجاه الآخر المختلف، الضعيف والمستضعف في المجتمع، بين الأجيال القادمة، ودعوا للتعامل مع المجتمعات الأخرى على أنّه شريكة وليست عدوة.

كتب الحاخام هيلل سيلـﭭر، وهو حاخام إصلاحيّ من زعماء يهود الولايات المتحدة، ومن قادة النضال بخصوص قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتّحدة، وإقامة دولة إسرائيل واعتراف دول العالم بها، في مقال بعنوان “عن المساواة بين بني البشر” في كتابه “بمَ تختلف اليهوديّة”:

“جميع بني البشر، بغض النظر عن العرق والديانة، يستحقون أن يُعاملوا باحترام، نزاهة وعدل،  فعلى سبيل المثال “يتوجّب علينا دعم الفقراء من غير اليهود كما ندعم اليهود، وزيارة المرضى الفقراء من غير اليهود كما نزور الفقراء اليهود، ودفن الموتى من غير اليهود كما ندفن موتانا اليهود”، لأنّ ” الرب صالح للكل، ومراحمه على كل أعماله” (المزمور 145-9).

في عالمنا العصريّ والمتنوّع، القدرة على تقبّل واحترام الآخر تشكّل قوة بالغة الأهمية، ربّما الاختبار الرئيسيّ الذي نقف أمامه. المجتمعات الفائزة هي تلك القادرة على احتواء مختلف العقائد، الأنواع الاجتماعيّة، الأطياف،ـ الألوان والأذواق. وقد تنمو تحديدًا من المخلتف والمتميّز قوة المجتمع الأمثل. بهذه الطريقة تحديدًا قد تتعزز الحساسية الاجتماعيّة، عند تقبّل الآخر واحترامه: احترام طريقه، اختياراته وعقيدته.  الحاخام كوك طيّب الذكر،ـ الذي كان مرشدًا روحيًا للعديدين، دعا تلامذته لتذويت هذه الحكمة، التي يجدر  بنا جميعًا أن نعزّزها:

“دارسو التوراة ليسوا حتمًا البنّائين- لأنّ المبنى يُشيّد من أجزاء مختلفة، وحقيقة نور العالم تُبنى بطرق مختلفة، هذا هو كلام الله الحيّ. من خلال طرق العمل والتعليم والإرشاد والتربية المختلفة، يتخذ كلّ إنسان مكانه وقيمته، ولا يجب التنازل عن أي مهارة وموهبة، بل يجب السعي لتعزيزها وتوسيعها وإيجاد مكان لها…. وتعدّد الآراء، الناتج عن اختلاف النفوس وأساليب التربية، هو الذي يُثري الحكمة ويوسّعها. في نهاية المطاف، تُبنى كلّ الأشياء كما يجب، وعلينا أن نقّ ر بأنّه لم يكن بإمكاننا بناء السلام ما لم نستعن بجميع القوى التي تتفوّق على بعضها البعض”

من المؤسف أنّ بعض الأشخاص الذين يعتقدون بأنّهم يكملون دربه ليسوا واعين بالقدر الكافي لهذه الحساسية، ولوجوب إدراك القوة الكامنة في تبنّي التعدّديّة من قِبل شعب تعرّض على مر العصور لشتى  الضغوطات والتحديات وأشكال الاضطهاد.

تتكرر في التوراة أصوات الكراهية، القمع، إلغاء الآخر والإساءة إليه، ولكن المجتمع السليم يجب أن يبحث في أيامنا العصيبة عن القواسم المشتركة بين مركّباته ومركّبات العالم المحيط بها.

 

لقد أحسن رئيس الحكومة الراحل طيب الذكر إسحاق رابين التعبير عن الحاجة المحليّة والعالميّة للاعتراف بالآخر والمختلف، بقوله:

“لا توجد في هذا العالم بصمتان متطابقتان، مثلما لا يوجد شخصان متطابقان،  ولكلّ دولة قوانين وثقافة وتقاليد وعادات خاصّة بها. مع ذلك، هناك رسالة شموليّة واحدة التي تسري على العالم بأكمله، مبدأ مشترك للأنظمة المختلفة وللأعراق غير المتشابهة، للثقافات الغريبة عن بعضها البعض: إنّه مبدأ قدسية الحياة”.

أضيف على كلمات السيد رابين طيّب الذكر أنّ قدسية الحياة لا تنبثق فقط من تركيزنا على ما يميّزنا، إنّما أيضًا من التعرّف إلى الآخر والمختلف، واحترام ديانته، ثقافته وعاداته.

 

الحاخام ميناحيم مندل، أحد أهم ركائز  الحركة الحسيديّة، أحسن التعبير عن ذلك بطريقته الخاصّة، بل وأسهب أيضًا في تعميم هذا المطلب الأخلاقيّ على كلّ واحد وواحدة منّا.  لا يدعونا الحاخام مندل إلى التعرّف على الآخر فحسب، بل إلى الإدراك بأنّ هذا الآخر سيكون مختلفًا عنّا وعن أرائنا، وأنّه بالرغم من هذا الاختلاف، يتوجّب علينا احترامه ليس التعرّف إليه فقط:

“مثلما تستطيع تحمّل اختلاف وجه الآخر عن وجهك، ستتحمّل أيضًا اختلاف آراء أصدقائك عن آرائك”.

 

في المجتمع الإسرائيليّ تحديدًا،  يكتسب هذا التحدّي قدرًا أكبر من الأهمية. القدرة على بناء مجتمع متسامح ومحتوٍ، الذي يعترف بوجود فجوات ثقافيّة وخلافات دينيّة، ولكنه يناهض الإجحاف، التمييز والقمع، هي من أسس القوة الاجتماعيّة والمدنيّة التي ستمكّننا من التغلّب على تحديات الزمان والمكان اللذين نحيا داخلهما. لقد أحسن مؤسّسو ومؤسّسات هذه الدولة وصف هذا الحلم وهذه الرؤية الداعيين للتسامح مع الآخر واحترامه، من منطلق الالتزام ببناء القاسم المشترك. وثيقة الاستقلال الموقّعة من قبلهم تضعنا أمام تحديات حتى يومنا هذا.

أحد كبار مقاتلي القرن العشرين ضد العنصرية والتعصّب تجاه الآخر كان نيلسون مانديلا الذي قال في خطاب تنصيبه رئيسًا لجنوب أفريقيا بعد سنوات من الفصل العنصريّ:

“لقد ولدنا لتجسيد السحر الآلهيّ الكامن فينا

وهو ليس كامنًا في البعض منّا فقط،

كلّ واحد منّا يحمل هذ السحر في داخله

عندما نسمح لنورنا الداخليّ بأن يشرق،

فإنّنا نمكّن غيرنا، عن دون وعي،

من القيام بالشيء نفسه

عندما نتحرّر من مخاوفنا،

فإنّ حضورنا يساهم في تحرير الآخرين”.

 

يضعنا نيلسون مانديلاـ، الذي نجح بشخصيته وسلوكه في احتواء الآخر حتى وإن كان كارهًا له،  أمام تحدي التحرّر من الخوف من الآخر ومن ثقافته. تعلّمنا من مانديلا أنّه حتى في خضّم الواقع الصعب الذي نعايشه، علينا محاولة إيجاد آفاق لحياة مشتركة. في هذا العالم المُشبع بالكراهية والتغيير، في العالم الديناميّ الذي نعيش فيه،  من المهم ألّا نرى الصعب والمختلف فقط، بل أنّ نركّز أيضًا على الخير الذي ينمو من المختلفين الذين تعلّموا كيفية العيش سويةً.

 

يهدف مشروع “مختلفون معًا” إلى تعزيز  أهمية التعرّف إلى الآخر واحترام ديانته وثقافته، في أوساط الأطفال وأبناء الشبيبة. نأمل بأنّ يساهم كشف أبناء الشبيبة على مختلف الأطياف، الآراء والثقافات في إضعاف الآراء المسبقة المصحوبة بالكراهية، الازدراء  والخوف، وفي تعزيز التسامح والصبر في المجتمع الإسرائيليّ متعدّد الأطياف.

إحدى المعضلات الرئيسيّة التي لا نزال نواجهها هي شعور العديدين بأنّهم على حقّ، وبأنّه لا يحق للآخرين التشبّث بآرائهم وعقائدهم. يهدف مشروع “مختلفون معًا” إلى تحريرنا من هذا الشعور.

يهدف مشروع “مختلفون معًا”، المأخوذ عن الجالية اليهوديّة في مدينة ساراسوتا، فلوريدا،  إلى تجسيد السحر الإلهيّ والبشريّ الكامن في نفوس أطفالنا. يسعى المشروع إلى كشف المجتمع الإسرائيليّ على التعقيد الكامن في الاختلاف واعتبار الآخر والمختلف مصدرًا مضاعِفًا للقوة. يدعو المشروع للتحرّر من مخاوفنا وكشف الآخرين على جمال الآخر الكامن في اختلافه.

في الختام، نحاول تبني رؤية الحاخام كوك لبناء مجتمع ودولة سليمين. على غرار رسالة مشروع “مختلفون معًا”، يدعو الحاخام كوك إلى الاعتراف بالإنسان لمجرّد كونه إنسان والتخليّ عن الحقد، الكراهية والقُبح القائمين أحيانًا في المعسكر الإسرائيليّ. يجدر بنا تذكّر كلماته:

“محبّة الناس يجب أن تصل إلى جميع بني البشر، بالرغم من اختلاف الأديان والأعراق.  الحقد، الذي يجعلنا نظنّ أن كلّ شيء موجود خارج أمّتنا يتّسم بالقبح والقذارة، هو من الشوائب التي تهدم كلّ ما هو جيّد”.

 

الحاخام ميئير آزاري

رئيس مراكز دانييل لليهوديّة التقدّميّة في تل أبيب-يافا